مروان الغفوري
معركة قاسية بكل المقاييس
الساعة 04:42 صباحاً
مروان الغفوري

خرافة الجناحين.. جدال مع فضل مُراد

بقلم/ مروان الغفوري

تتحرك الرّمال، يدخل رجال من مدرسة الحديث، وهذا أمر جيّد. نود أن نشير هُنا إلى الحميقاني، فضل مراد، المرّاني. آخرون أيضاً. 

 قبل أقل من عام كتب الزعيم السلفي "الحميقاني" على صفحته عن قصة منام عليّ في فراش النبي ليلة الهجرة، في سياق الجدل الذي أثرناه آنذاك. رآها قصة ضعيفة ولا تصح [أي مختلقة]. هذا عرض جيّد بالنظر إلى الجهة التي يردُ منها، مدرسة الحديث.

قبل وقت قريب راسلني أحد كبار شيوخ الإخوان في اليمن، يقدّم نفسه بوصفه من ركب المؤسسين.  دخل في النقاش شامتاً وصارخاً على كبر سنّه، ولم يعرّف بنفسه أول الأمر. بعد حوار قصير على وتس أب، قلتُ فيه حقائق تاريخية في العَظم، استدرك قائلاً: صحيح أن علياً رضي الله عنه كان فاشلاً سياسياً وعسكرياً وإدارياً، ولكنه صاحب المناقب الرفيعة، يحبّه الله ويحبه رسوله، وهو الذي .. إلخ. 
أنهيت النقاش بالقول: دعنا نتفق على الجملة الأولى، نهارك سعيد.


وبالأمس جاء فضل مراد، البروفيسور ورجل الدين المعروف وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكتب مرافعة تفصيلية على صفحته حول قائمة الخرافات الهاشمية التي سبق أن ذكرتها على صفحتي.

بالنسبة للشيخ مُراد فهذه القصص كلها مختلقة ولا يصح منها شيء:
الأئمة من قريش، قصة باب خيبر، مبارزة علي لعمرو بن عبد ود، حصار بني هاشم في الشّعب، حديث لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، حديث الغدير، حديث الكساء، حديث الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، حديث حمزة أسد الله.

دشّن الشيخ مُراد مرافعته بتحديد إطار مرجعي عام عند النظر في النصوص النبوية. أسمى الإطار المرجعي "الأسئلة التأسيسية الخمسة"، وهي: سؤال التصور والماهية، سؤال الثبوت، سؤال الدليل والدلالة، سؤال التعارض  والموازنات، وسؤال إنتاج الحكم.


امتلك الشيخ مُراد شجاعة منقوصة، فبعد أن نسف قائمة من الإدعاءات الهاشمية تلك توقف فجأة مستدركاً: لا يطعن في جعفر إلا صاحب هوى وضلال. حديث الجناحين في البخاري.

تخلى عن علميّته فجأة، مانحاً من يشكك في حديث الجناحين نعتين كبيرين: ضال، صاحب هوى.

مغالطة علمية خطيرة أوردها مُراد، وما كنتُ لأحب أن يوردها رجل بمركزه العلمي. فالبخاري لم ينقل الخبر عن الرسول، بل عن ابن عُمر شخصياً. يقول النص: إن ابن عمر كان إذا سلّم على ابن جعفر قال السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. لم يورد البخاري في هذه المسألة نصّاً على لسان النبي. 
لماذا قد يفعل ابن عمر ذلك؟ 


توقف البخاري هُنا بذكاء، فلم يورد حديثاً واحداً على لسان النبي يقول فيه إن جعفرَ يطير في الجنة. يبدو أن الطرق كلها التي أوردت هذا النص لم تقنع البخاري، فاكتفى بنصّ واحد، يتحدث فيه ابن عُمر إلى عبد الله بن جعفر.

جاء شرّاح البخاري، كابن حجر، فقالوا إن ابن عُمر كان يُحيل إلى الحديث الذي أورده الطبراني.  لماذا تجاهله البخاري إذن؟

 الحقيقة أن عبدالله بن جعفر نفسه هو من أورد الحديث. كان يقول: قال لي رسول الله هنيئاً لأبيك جناحان يطير بهما في الجنة. يصدّق المحدثون عبد الله بن جعفر حين يقول إنه سمع النبي يخبره. لم يجرؤ أحد على الشك في روايته، هكذا استقر علم الحديث: من رأى النبي لا يمكن أن يُتهم بالكذب.

لماذا جناحان؟ لأن يديه قطعتا في المعركة. ولكن الآخرَين فقدا حياتيهما ولم ينالا، أو أسرتاهما، تعويضاً عاطفياً. 

غير أن المتتبع لأفعال عبدالله بن جعفر في التاريخ، وكيف تورط في الدعاية الهاشمية والقتال تحت الراية المقدسة، سيشك في أهلية الرجل، على الأقل حين يتعلق الأمر بأنباء العترة. 

دعونا نتتبع الروايات الهاشمية حول معركة مؤتة، سنجد أن النصوص تنتهي إلى رجلين من بني هاشم: عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. الأخير سيُعرف، فيما بعد، بتلاعبه بعقل علي ودفعه إلى الوقيعة بين رجاله [كما بينا في كتابنا على مقام الصبا فيما يخص خسارة علي لمصر]. كما أنه سيشترك في التمثيل بجثّة ابن ملجم، ضارباً بالقضاء الإسلامي عرض الحائط. 

تقول واحدة من الروايات الهاشمية حول مؤتة، وسيوردها ابن عباس:
"قال رسول الله دخلتُ الجنة البارِحة فنظرت فيها ، فإذا جعفر يَطيرُ مع الملائكةِ ، و إذا حمزة متَّكِىء على سرِيرٍ".

الحديث عند الطبراني (2/107) وبحسب الألباني فإن درجته "صحيح". لاحظوا أن النبي هنا زار الجنة ولم ير منها سوى رجلين من بني هاشم، بين مقتلهما خمسة أعوام، أحدهما متكئ والآخر يطير. نبي العائلة، لا يرى سواها، ولا يفكر سوى بأمرها. صحح الألباني كل النصوص العتروية التي أهملها البخاري، بحث عنها عند الحاكم وأحمد والطبراني والبيهقي ورفعها إلى درجة الصحيح، لتلتحق بالعقيدة وتصير متناً داخل الدين. مساهمة الألباني، على هذا النحو، مزلزلة. منزلة العترة، على هذا النحو غير العادل وغير المفهوم، تشوّش على الإسلام وتمسّ ادعاءاته حول العدل والمساواة. 

لنذهب إلى مؤتة، من أرض الأردن حالياً، سنة ثمانية للهجرة. تجري مواجهة غير متكافئة بين المسلمين من جهة والروم وقبائل عربية من جهة أخرى. يُقتل القائد الأول، زيد بن حارثة، ثم الثاني [جعفر بن أبي طالب]، ثم الثالث: عبد الله بن رواحة. الثلاثة من الدائرة الضيقة المحيطة بالنبي، من خيرة رجاله. غير أن النبي - كما في الحديث- اختار فقط أن يمنح ابن عمّه جناحين في الجنّة. ماذا عن القائدين الآخرين؟ لماذا تذهب الأجنحة للشهيد الهاشمي [القنديل]، ولا تذهب لزميليه؟ 

إذا ما عدنا للبخاري ، فسنجده ينقل تباهي النبي بما فعله خالد بن الوليد، إذ أنقذ الموقف بمجموعة معقدة من التكتيكات العسكرية، ونفذ انسحاباً ذكيّاً بعد اشتباكات ناجحة. يقول النبي لأصحابه، كما في البخاري، ناقلاً أجواء المعركة: أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم.

كانت معركة قاسية بكل المقاييس، إذ حشد البيزنطيون مع حلفائهم العرب جيشاً جرّاراً قدرته مصادر تاريخية كثيرة بما يزيد عن مائة ألف. في المواجهة تلك قدم الهاشميون شهيداً، ثم ملأوا الدنيا ضجيجاً، جعلوا له أجنحة، وصار هو المعركة. يتذكر الناس مؤتة من خلال الخبر عن جناحي جعفر الهاشمي، ويكاد لا يعرف أحد البلاء العسكري الاستثنائي للرجل الذي أنقذ جيشاً من الهلاك.

من الواضح أن الإطار المرجعي الذي حدده الرجل الجليل، دكتور فضل مراد، غير كاف. فالأسس الأخلاقية التي رسى عليها الدين، وفي مطلعها المساواة والعدل، تدفعنا إلى رفض أي نصّ أو خبر يمس تلك الأسس أو يهينها.

هُنا، كما قلنا مراراً، لا بد أن تتدخل اليد الهاشمية وتسحب الشرف من خالد، ستضع جناحين لجعفر. وعندما يقول خالد عن نفسه، كما يروي البخاري، إن تسعة من السيوف انقطعت في يده في المعركة تلك ولم تنقذه سوى صفيحة يمانية، سترفع العترة لائحة المزايدات. ستأخذ النبي في زيارة إلى الجنة وتجعله يرى الشهيدين الهاشميين، جعفر وحمزة، ولا يرى أياً من الفدائيين الشجعان الذين تساقطوا خلال واحد وعشرين عامّاً مرّت حتى تلك اللحظة. 

هذه النصوص تجعل النبي هاشميّاً إلى أبعد مدى، لا يرى سوى العائلة، ولا يحترم سوى تضحياتها، ويتوسّط بينها وبين الله: أن يمنح هذا جناحين، ويعد متكأ للآخر.

كيف سيبدو شعور المسلمين، كل المسلمين، وهم يسمعون قصة الجناحين اللذين حرم منهما عبد الله بن رواحه وصاحبه زيد بن حارثة؟ ماذا لو قال ابن عبدالله بن رواحة: ولماذا لا يطير والدي في الجنة؟ ماذا لو قال ابن زيد: ولماذا لم تر متكأ والدي في زيارتك؟ 

كيف سيتلقى الناس، بعد ألف عام، هذه الترسانة من التفضيلات والامتيازات العائلية؟ 

لماذا سيبدو الله، الذي يقدّم بوصفه الخالق الأوحد والأسمى للكون، معنيّاً ببيت في قريش ولا يرى سواها؟
على الجانب الآخر:
لماذا سيهدد النبي ابنته فاطمة بقطع اليد إن سرقت [لا استثناء أمام القانون] إذا كانت العترة تطير وتتكئ في الجنة كما يحلو لها؟

ولماذا سيهدد القرآنُ النبي الأخير، محمّداً، بقطع شرايين العنق إن تقوّل أو افترى أو ذهب برسالة الإسلام إلى غير مكان؟ 
وهو تهديد قاس لا نظن أن نبيّاً سابقاً قد تلقاه على تلك الصورة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص