عبدالباري طاهر
ذكرى 11 فبراير ومجد السلام
الساعة 10:46 مساءاً
عبدالباري طاهر

قُرَّاء التاريخ اليمني، ومتابعو الأوضاع العامة، يندهشون من انتشار السلاح. ورغم انتشار السلاح، ونهج الفتن والحروب، فإن هذا البلد المدجج بالأمية والسلاح كثيراً ما يهمد، ويستكين تخوم الموت، ثم ينتفض، ليثيرَ الدهشةَ والإعجاب!

أشار المؤرخ الخزرجي في القرن التاسع بالقول: «إن لليمنيين وثباتٍ كوثبات السباع». السلاح المنتشر في اليمن كالأوبئة الفتاكة، والمجاعات المستدامة، والحروب المتناسلة، قد أعاقت حتى اليوم بناء مجتمع مدني، ودولة عصرية حديثة وديمقراطية. والحروب وتجارها هم العدو الرئيسي الحقيقي للشعب.

الأنموذج الجديد الذي قدمته الثورتان اليمنيتان: 26 سبتمبر 62، والرابع عشر من أكتوبر 63، ووحدة الـ 22 من مايو 90 السلمية والطوعية - أكلته الحروب، وتكالبت عليه القوى التقليدية: العسكر الخارجون من رحم القبيلة، وشيوخ القبائل، والإسلام السياسي بشقيه: المتسنن والمتشيع لاحقاً.

لم يكن أمام صنعاء المدينة المغلقة المُسَيَّجة بسور العزلة عن العصر، والمتخلفة و«القروسطية» من خيار ممكن غير انقلاب سبتمبر 62 الذي تحول إلى ثورة عمَّتْ الأرض اليمنية كلها. أما مدينة عدن «المستعمرة» مدينة العصر الحديث، فقد استمر كفاحها السلمي لأكثر من عقدين، ولكن الاستعمار حنث وماطل في وعود منح الاستقلال؛ فلجأ ثوار الجنوب إلى حمل السلاح؛ لتحقيق الاستقلال.

حمل السلاح في ردفان لم يكن ابتداءً، وإنما رداً على الحملات البريطانية لتجريد ثوار ردفان العائدين من الشمال من سلاحهم.

ثورة الربيع العربي أكدت حقائقَ راسخة: وحدة الأمة العربية، ووحدة المصير العربي. وسواء أُرخ للبداية بالانتفاضة الفلسطينية الأولى 8 ديسمبر1987، أو بإحراق البوعزيزي لنفسه في تونس 17 سبتمبر، أو بقتل خالد سعيد تحت التعذيب في سجون الأمن في الإسكندرية 2011 - فإن البدايات هنا أو هناك تؤكد على وحدة المصير العربي، وأن الجسم العربي الممتد من الماء إلى الماء جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد.

في اليمن أيضاً كانت البدايات مختلفة ومتفاوتة. بدأت في حضرموت عام 1997 - كما أشار الزميل عوض كشميم - وتواصلت في مراحل مختلفة. وفي عدن بدأ نزول الحراك الجنوبي السلمي في 2007، وكانت البداية في مدن الشمال: تعز، وصنعاء في فبراير من العام 2011، أي بعد الثورتين: التونسية، والمصرية 25 يناير 2011.

التسلسل والترابط شاهد وحدة النضال العربي. ثم إن هناك الحقيقة الثانية، وهي «سلمية الربيع العربي» في مختلف الأقطار العربية. فبرغم العنف الأعمى الذي مارسته السلطات المستبدة والفاسدة في مختلف أقطار الربيع العربي، وأعلن بعضها - وحتى اليوم - الحرب ضد شعوبها، كما هو الحال في سوريا، وليبيا، واليمن، والسودان، والبحرين، وغيرها - فإن السلمية كانت السمة العامة والأبرز في ربيع الثورات العربية السلمية. والعنف والعنف المضاد - في هذه البلدان - تولى كبره الحكام، والمعارضة «الإسلاموية» المدعومة من البلدان العربية النفطية المعادية للربيع العربي، وللثورات القومية. فقد حصل ما يشبه توافق الإرادات المبيتة ما بين الحكام الفاسدين في بلدان ثورات الربيع؛ إذ جرى دعم ومساندة العنف الأعمى، وجر المسيرات الشعبية السلمية للعنف. وأسهمت الأنظمة الدكتاتورية في تسليح معارضة مصطنعة، وفي إطلاق سراح المجرمين من السجون؛ لتأجيج العنف، وضرب سلمية الثورات. فالعنف والحرب سلاحا القوى الاستعمارية، والرجعية، فهما محتكرا العنف الأعمى، وهما من يفرضه على الشعوب والأمم منذ قتل قابيل أخاه هابيل، وحتى إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما ونيكازاكي في نهايات الحرب العالمية الثانية؛ فتضطر الأمم والشعوب والجماعات المضطهدة للدفاع عن نفسها، وقد تقع في أخطاء، وقد ينحرف مسار كفاحها.

السمة العامة المشتركة في ثورات الربيع العربي هي العفوية والتلقائية. فلم يكن هناك تخطيط من أي نوع، واشتعل الحريق في هشيم أنظمة هشة فاسدة ومستبدة لا علاقة بينها وبين شعوبها غير الإرهاب، والقمع، والتجهيل، والتجويع، وعجز هذه الأنظمة المدقع عن حل قضايا البناء والتنمية والتطور. فكان الغضب الشعبي عارماً، لكنه سلمي وعفوي. استقلالية تيارات الشباب / الشابات قوة ربيع الطبيعة والحياة هي الملمح الأهم في كل هذه الثورات. ولعل أخطر مكيدة استعمارية ورجعية تعرض لها الربيع العربي، هو التحاق المعارضة التقليدية والإسلاموية، بصورة أخص، بالثورة. وهو ما أشعل فتيل العنف، وأعطى المبرر والذرائع لقوى الفساد والاستبداد لإعلان الحرب، والاكتفاء بإجراءات شكلية: إزاحة رأس النظام، والإبقاء على النظام: مصر، اليمن. ففي مصر تحالف «الإخوان المسلمون» والعسكر لاحتواء الثورة الشعبية، ثم انقلب العسكر على «الإخوان» مدعومين بالرجعيات العربية والأمريكان.

ربيع اليمن

أما ربيع الثورة في اليمن المتعدد المناخات، والمتفاوت في التطور والنمو، والذي فككته حروب صالح الكاثرة، فقد شهد أكثر من بداية - كما سبق - صبت البدايات في مجرى ربيع يمني غمر الأرض والإنسان اليمني: الشباب والشابات، المستقلون والمستقلات، وشباب الأحزاب، وطلاب جامعة وثانوية، وعمال ومن مختلف التركيبة الاجتماعية، وبالأخص الطبقة الوسطى.

ونحن حين نحتفي بالذكرى السابعة للحادي عشر من نوفمبر ليس المطلوب كيل المديح لهذه الثورة السلمية، ولا التباكي عليها، وإنما المهم تقييم مسار الثورة الشعبية السلمية، ونقد جوانب النقص والأخطاء الفادحة التي شابت مسيرتها. فالوفاء للسلمية، وللشهداء من الشباب والشابات من مختلف فئات وشرائح المجتمع اليمني لن يكون إلا بنقد التجربة، والكشف عن الأخطاء التي أحاقت بها، وسهلت الانحراف بها، والانقضاض عليها. فالتفكك، وغياب الرؤية السياسية الجلية، سبب رئيس منذ البدايات المتعددة والمتباعدة. فالتفكك في واقع المدن اليمنية جلها، وبالتالي في الساحات المنقسمة والمنفصلة عن بعضها سبب أيضاً. ضعف الطبقة الوسطى، وتمزقها، وتغول شيوخ القبائل الكبيرة الذين سيطروا على السلطة، والجيش، والأمن، والتجارة، وغياب القيادة الواحدة، والرؤية المشتركة عامل ضعف خطير.

التحاق الأحزاب الكبيرة، ونزول قيادات الأحزاب للساحات - وإن رفد الاحتجاج بقوة عددية، وحَدَّ من محاصرة الشباب وقمعهم في البداية - إلا أنه قد فرض تسيد المشترك، وهي قيادات تقليدية في الغالب. وكان «التجمع اليمني للإصلاح» المتسيد في أهم الساحات.

هيمن زعماء «الإصلاح» بجناحيه، القبلي: أولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر شيخ مشايخ حاشد، والمنتمي بعضهم لـ«الإصلاح» كحميد الأحمر، والجناح الإسلاموي: الشيخ عبد المجيد الزنداني، على المشهد السياسي.

دعا الزنداني والتيار السلفي في «الإصلاح» إلى عودة الخلافة الإسلامية، وأقصوا الفتيات الثائرات، وفصلوا بحاجز حديدي بين النساء والرجال في ساحة التغيير بصنعاء، واعتدوا بالضرب على الفتيات المشاركات في المسيرات.

أصدر علي عبدالله صالح ما يشبه التوجيه بتحريم الاختلاط، ومشاركة النساء في المظاهرات؛ فتلقف علي محسن حامي الساحة التوجيه؛ فجرى الاعتداء من قبل جنود الفرقة على النساء.

استولى «الإصلاح» على المنصة الإعلامية في ساحة التغيير بصنعاء، وصادر الرأي الآخر، وقمع المعارضين، وتعرض أحمد سيف حاشد للضرب أكثر من مرة، ومُنِعَ من إقامة منصة ثانية، وجرى تكسير المنصة التي أقامها.

احتكر «الإصلاح» المسيرات، وقام بتشكيل منسقيات ومجالس تابعة له، وهو نفس ما حصل في ساحة الحرية بتعز، وتعرضت الساحة للإحراق. 
جرى في ساحة التغيير فتح معتقلات، واحتكر «الإصلاح» المساعدات، وبدأ الصراع بين «الإصلاح» و«الشباب المؤمن»، وبدأ التدريب العسكري والالتحاق بالفرقة الأولى مدرع وتجييش «الإصلاح» لعسكرة الساحة.

انشقاق علي محسن الأحمر وفريقه في الجيش والأمن والحكومة والسلك الدبلوماسي، كان بداية الانحراف بالثورة السلمية، وعسكرتها. الحض على الاستشهاد تضمن معنى من دعوات الجهاد: «كلما زدنا شهيداً، اهتز عرشُك يا علي».

جمعة الكرامة 18 مارس 2011 كانت ذروة العنف ضد المصلين المحتجين يوم الجمعة. ألقى شباب ساحة التغيير بصنعاء القبض على القتلة، وسُلِّموا للنائب النزيه والمستقل عبدالله العُلُفِي الذي فضل تقديم استقالته بعد أن رفض تسليم القتلة لعلي محسن، وبعد رفض صالح تسليم المتهمين الرئيسيين عن المذبحة، وقد جرى بعد ذلك تهريب القتلة دون تحقيق أو مساءلة.

بدأ العنف بعسكرة الساحة، والفصل بين الشباب، وقمع المعارضين، والاعتقال داخل الساحة، والاعتداء على الشباب والشابات المحتجين.

انقسمت قوى الحرب والحكم بالقوة والغلبة على نفسها، والتحق قادة المشترك بالمنشقين، وانقسمت الساحات، وبالأخص ساحة التغيير بصنعاء، وساحة الحرية بتعز.

في صنعاء جرى الاحتفال بانضمام خالد بن الوليد (علي محسن الأحمر)، وبدأت طبول الحرب تدق. تفجرت الحرب في أرحب، ونهم، والحيمتين، وفي غير مكان. وشيئاً فشيئاً تحولت الثورة السلمية إلى صراع بين جناحي حكم الـ33 عاماً: صالح، ومحسن. «المؤتمر الشعبي العام»، و«التجمع اليمني للإصلاح»، وبدأت الساحات تفقد الاستقلالية والسلمية، وهما جوهر ومضمون الربيع الشعبي الشبابي في اليمن، وانحازت أحزاب «المشترك» للفريق المنشق، وتدخلت السعودية، ومجلس التعاون الخليجي الحريصان على بقاء النظام، والخلاص من الربيع العربي كله، وبالأخص في اليمن.

أعيد إنتاج النظام بمبادرة التعاون الخليجي التي منحت صالح ونظام حكمه، بما في ذلك المنشقين، الحصانة، وعقدت المصالحة بين قطبي الحكم، وتم إقصاء الجنوب، وتهميش الثورة.

شعرت بالامتنان لتحية الدكتور ياسين سعيد نعمان للثورة. فقد كان حينها شوكة ميزان، ويقوم بدور إطفاء حرائق الفتن والحرب.

لا شيء يموت في التاريخ. والثورة - كالشعوب - كائن حي، وهي تمرض وتهمد، ولكنها تعود حتماً، وشرارتها تحت الرماد تظل مشتعلة.

ونحن نحيي الذكرى السابعة للثورة السلمية، ينبغي أن نذكر أن ساحة تعز في مدن الشمال هي أول من أشعل فتيل «الشعب يريد إسقاط النظام»، والشاب الذي تصدى، وكان أول من خرج: أيوب الصالحي، ورفيقه: أكرم حميد، مختطفان قسرياً منذ أكثر من عام ونصف. ورغم جهود لجنة الدفاع عن المخفيين في مدينة تعز المحاصرة، إلا أن قوى الحرب داخل الثورة الشعبية السلمية يؤكدون أن معركتهم الحقيقية هي قادة الثورة السلمية.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص