مروان الغفوري
القدس عاصمة فلسطين، وفلسطين عاصمتنا
الساعة 07:10 صباحاً
مروان الغفوري

كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين.

أربع ساعات من التحقيق، سألوني حتى عن أسماء النجوم والكواكب.

كنت واثقاً أنني سأجتاز المعبر الإسرائيلي، على الحدود مع الأردن، قبل الآخرين. غير أن الآخرين كانوا يغطون في النوم عندما كانت ضابطة إسرائيلية تصيح من بعيد: مروااان.

 في اللحظة تلك، والآخرون قد ناموا، أردت أن أنهر الضابطة الرشيقة: 

مروان حاف؟

انطلقنا من عمّان في حافلة كبيرة بصحبة مندوبي وزارة الثقافة الفلسطينية، وعندما رأيت أول حاجز إسرائيلي (لتفتيش الشاحنات)  التقطت صورة بموبايلي. قال سائق الحافلة عبر مكبر الصوت: ممنوع التقاط الصور، ممكن يطخونا.

 أخافتني كلمة يطخونا لأول مرة. لا تزال اللغة العربية حافلة بأفعال تخيف اليمني. يطخونا؟ 

جنود إسرائيليون مفتولو العضلات، يمسكون برشاشات غريبة، فوهاتها إلى الأرض، أصابعهم على الزناد، ملامحهم جامدة، ينظرون في الفراغ.

في الاستراحة عند جسر الحسين قلت لشاعر فلسطيني:

 لماذا تقولون اليهود ولا تقولون الإسرائيليون؟ 

شردت عن الوفد، سلكت طريقاً آخر. فأنا الوحيد الذي بلا حقيبة. لا تزال حقيبتي في مطار أنقرة، اليوم سأذهب إلى حفلة افتتاح معرض فلسطين للكتاب بملابس ارتديها منذ ثلاثة أيام. أخيراً سأذهب إلى مكان ما بلا عطر، لم يحدث معي شيء كهذا من قبل. 

- ما اسم والدك

- أحمد

- ما اسم جدك؟

- محمد

- عندك بسبور غير الألماني؟

- لا

قلت للسيدة رويدة القبالي (فلسطينية، حماتي) في رسالة صوتية قبل الحدود: سأكون من أول من يجتاز المعبر من اعضاء الوفد. 

عند النافذة الأولى، بعد أن أخذوا جوازي وسألوني عن كل ما يدب على الأرض قالوا لي انتظر. قرأت عشرين صفحة من كتاب حول أدب أميركا اللاتينية.

 قلت: حسناً، لم أنتظر سوى عشرين صفحة.

ثم توقفت عن عد الصفحات عندما أدركت أن الزمن مع إسرائيل لا يقاس بالصفحات.

سألتني ساره ياسين (زوجتي، فلسطينية):

- من وين جايب نت؟

- تبعهم، إسرائيلي

- ههه مراقب طبعا، شايفينك

- إيه طبعاً

- ما تتوتر

- حتخانق معهم والله. ساعتين ونص وكل شوية حد يحقق معي ويختفي

- لو ما سمحوا لك ارجع على عمّان، قضي فيها خمسة أيام وطز في اليهود

- اسمهم الإسرائيليين مش اليهود

- كل حاجة مالحة

انتهت الساعة الثالثة، مندوب وزارة الثقافة يهاتفني:

الوفد وصل بالسلامة ع رام الله. شو صار معاك؟

- غلبوني والله، لي ساعتين أفكر مين الشخص اللي بعت لي رسالة من بيروت قبل ثلاث سنوات ع وتس أب. الرسالة تقول "شوف هذي الصورة التقطتها بموبايلي اليوم". النمرة مش مسجلة. 

قال لي الأخ فراس (المندوب): لا تقلق رح يعطوك رح يعطوك. بلغني بالتطورات لو سمحت. 

- حاضر

عاد الضابطان. وقفت مجددا، قلت لهما: أظنه شاب يمني كان يعمل في سفارة اليمن في بيروت.

تلافتا كالمأخوذين.

أحدهما، بالإنجليزية:

- كم عندك إخوان في غزة؟

- في غزة؟

- أيوه في غزة؟

- وليش ممكن يكون عندي إخوة في غزة وأنا يمني؟

- متأكد؟

-أنا مش فاهم السؤال أصلاً.

دخلنا غرفة تحقيق ضيقة. الضابط يلبس كمامة ويسألني. قلت له ممكن لو سمحت تشيل الكمامة، مش فاهم كلامك. شال الكمامة، شارب أشقر، عينان ملونتان. 

- عدد لي أسماء إخوانك مع سكنهم وشغلهم.

بعدها: احكي لي عن أسرة زوجتك الفلسطينية. 

هذا الموضوع أخذ وقتا طويلاً.

أسئلة ظريفة مثل:

زوجتك سنية أم شيعية؟

أجيب: زوجتي أتايست (نطقتها بالألمانية). تهجأ الكلمة وسألني عن معناها. قلت له: لا ديني.

-لماذا؟

- فقدت أسرتها واحداً تلو الآخر في الشتات، وفي النهاية فقدت الإيمان.

أُخذ بالإجابة. 

- وأنت؟

- أنا إيش؟

- سني والا شيعي؟

- دياري سنية، ولي تصوري الخاص عن الرب.

- ماذا كنت تفعل في لبنان؟

- لم أسافر إلى لبنان

- بلى سافرت

- لا طبعا

- وليش لا

- مش عايز اروح لبنان

- وليش لا، لبنان حلوة

- هي حلوة وأنا لي موقف منها بسبب دعمها للحوثيين

- لبنان والا حزب الله؟

- كانت تسمى لبنان. هي الآن حزب الله

- مع مين بتحكي في لبنان؟

- تقريبا مش مع أحد

- في موبايلك محادثات مع لبنانيين

- ناشرو كتب.

- في شخص من غير اسم

- قلت لك أظنه شاب يمني في سفارتنا هناك

- هات موبايلك، افتح لي الواتس أب، حط كود سوريا، من هؤلاء السوريون؟

- لا أعرفهم، يمكن سبام

- من صاحب هذي الرسالة؟

أقرأ له الرسالة بصوت عال:

كيفك أخي أنا أم محمد من سوريا

- ليش نمرتك عامة؟

- نعم عامة

-شمعنى؟

فتحت تطبيق طبيبي. شوف حضرتك ده مستشفى إليكتروني وأنا مديره وهذه نمرتي مكتوبة تحت صورتي.

- كلمني عن التطبيق.

وقصة طويلة. بس الحقيقة إنه انبهر جداً لأول مرة. فجأة يسألني: وأيش علاقتك بالطب؟

- أنا متخصص في طب القلب

- أهااا أنت طبيب

- أظن إن اسمي على جواز السفر Dr. Abdulghafor

- افتكرتك دكتور في الآداب. حلو (أخذ ورقة جديدة، كل هذا وهو يكتب بالقلم) كلمني عن دراستك للطب خطوة خطوة.

- جامعة عين شمس

- من سنة كام لكام

تفاصيل. تفاصيل. تفاصيل

- ثم جامعة القاهرة

تفاصيل تفاصيل. تفاصيل

- ثم جامعة إيسن دويسبورغ

تفاصيل. تفاصيل. تفاصيل

- متى كنت في إيران؟

- ولا مرة

- ولو أتيحت لك فرصة؟

- لن أذهب

- ليش؟

- معنديش مصلحة فيها

- بس هي بلد حلوة

- طيب ما تروحها أنت

- أنا بسألك أنت

- شوف يا سيدي أحببتَ الإجابة أو لا نحن في اليمن نستخدم كلمة العدو بشكل مختلف عن كل العرب

- بمعنى؟

- نحن نقول العدو الإيراني

- ليش؟

- لأن إيران تقف بشكل مباشر وراء انهيار اليمن إلى ثلاث دويلات.

بعد وقت عاد. 

- كويس إنك لسه في الغرفة 

- في الغرفة

- أيوه، قلت لك استنى برّه

- شوف أنا ما أكلتش من الصباح، وتقريباً بديت أدوخ. 

- اطلع كل حاجة، في كشك على شمالك. 

ساره ياسين:

- أيش صار معاك، طمني؟

- دخت وطلعت آكل، أخذت فانتا وكرواسون بالشوكولاته والآن دخت زيادة.

- سكر وانت دايخ؟ هذا هو الفرق بيني وبينك، أنا استراتيجية وأنت تكتيكي، أنا بفكر للبعيد وانت تفكر باللحظة.

-  مالك يا بنتي قلبت إسرائيلية؟

- ههه خلاص صحتين.

الضابط مرة أخرى:

- عندك كتب من مؤلفاتك؟

- أيوه

- وريني

- حرب الشيخ أحمد

تأمل صورة الشيخ أحمد ببندقيته على غلاف الكتاب (واضح أنه يجيد القراءة بالعربية).

- ما دلالة البندقية؟

- تاريخ يمني

- لخص لي الكتاب

- الرواية؟

- أيوه

تفاصيل تفاصيل 

عندك غيره 

- أيوه

أربع ساعات. انتظار. تحقيق. 

جاءت سيدة وصاحت من بعيد: مروااان.

 قفزت من مكاني. أعطتني تأشيرة دخول إلى إسرائيل لمدة ثلاثة أشهر. 

فكرت في أن أقول لها جملة واحدة فقط:

مروان، حاف؟ 

التأشيرة على كارت منفصل، لا يختم الإسرائيليون على الجواز.

ساره ياسين:

شو الأخبار طمني؟

- اليهود طلعوا عيني

- أعطوك الفيزه؟

- أيوه

- الحمدلله. بس لا تقول اليهود. قول الإسرائيليين

- يعني ده وقته؟

- عشان تعرف بس. 

في الخارج أخذت أتوبيس ب١٣ شيكل حتى المعبر الفلسطيني، الجوازات. وقفت في طابور طويل.

الضابط يسألني:

ليش ما عندك جواز فلسطيني؟

- لأني مش فلسطيني

يحدق في وجهي باستغراب. 

- تفضل

في الخارج باصات كبير، على شكل خانات متجاورة. فوق كل خانة لوحة وعنوان: 

محافظة قلقيلية

محافظة رام الله

محافظة طولكرم

محافظة بيت لحم

محافظة جنين

محافظة القدس

محافظة سلفيت

محافظة الخليل

محافظة نابلس.

التقطت صورة للمنظر، تجولت في أرض فلسطين، لا إنترنت في الخارج. توقفت. شبان في كل مكان، فتاة تسأل شخص دون أن تنظر في وجهه:

- معاك ٨٠٠ شيكل؟

- ٨٠٠ شيكل؟

- إيه ٨٠٠ شيكل

رن تلفوني، أظنها مكالمة دولية وستحسب على فاتورتي. العزيز فراس. اطّلع ع اليمين. شفتك. 

في الطريق قال لي:

 نشرب قهوة ونأكل سندوتش مسحوب في مقهى سمر بأريحا. - موافق. 

توقفنا لدقائق في مكان ما من أرض فلسطين. استغليت خروجه وسألت السائق:

يعني أيش سندوتش مسحوب؟

- دجاج

في الطريق، من على تل مرتفع قال فراس:

الأنوار اللي هناك هي القدس.

القدس عاصمة فلسطين، وفلسطين عاصمتنا. 

**********

قال وزير الثقافة الفلسطيني في كلمة الافتتاح إن على المعرفة أن تخوض صراعاً ضد الرواية الملوثة.

الرواية الملوثة، كما يراها الفلسطيني، هي التاريخ البديل الذي تقدمه الحركة الصهيونية عن فلسطين.

في البلدة القديمة، القدس، ينحصر الوجود الإسرائيلي في أسراب العسكر. على الأرض إيقاع فلسطيني شامل: اللغة، الأسواق، الطقوس، والضجيج. كل شيء في قبضة عرب القدس. 

حين دخلت الحرم المقدس أصبت بمتلازمة ستندال: انبهار، تسارع في نبضات القلب، دوار، وغمامة أمام العينين. حدث لاستندال (كاتب فرنسي، قرن ١٩) الشيء نفسه وهو يواجه جمال فلورنسا لأول مرة.

كنا مجموعة من خمسة أشخاص سمحوا لنا بالعبور،  بينما أعادوا الآخرين من مداخل القدس. 

صليت أربعة فروض في الأقصى. والظلام يهبط شيئاً فشيئاً أوقف العرب شاباً يرتدي سروالاً قصيرا، لم يسمح له باجتياز عتبة الحرم المقدس. كان يصرخ فيهم: لو الاحترام باللباس والمظهر هايهم اليهود مربين دقون. كان يشير إلى مجموعة عسكرية تراقب ما يجري والأيادي على الزناد.

أصابت متلازمة ستندال باقي الرفاق. في مسجد قبة الصخرة وقف صديقنا الأردني (مدير دار نشر)  ليصلي ركعتين في التجويف تحت الصخرة بعد صلاة العصر.  نصحه الآخرون بأن لا يفعل، فهو وقت لا تستحب فيه الصلاة. كبّر وصلى ضاربا بكل النصوص عرض الحائط. 

 التقطنا الصور. جلسنا على الأرض، قمنا، جلسنا، تحركنا، بحثنا عن متسولين ووجدنا القليل منهم. سألنا عن أفضل  من يعمل الكنافة النابلسية في البلدة القديمة فدلونا على جعفر. وجدنا جعفر، أكلنا في دكان جعفر كنافة يحبها الله ورسوله. 

عدنا متأخرين، ركبنا باصاً سعة ٨-١٠ راكب. سألنا راكبٌ ممتلئ بالشحم عن بلداننا فقلنا خمسة: عمان، اليمن، الكويت، مصر، والأردن. دفع عنّا الأجرة، وأصر على العشاء في بيته. حدث جدل معقد حول الوضع الاقتصادي لأهل البلد. لاحظنا أن راكبين أو ثلاثة، بينهم امرأة، يتبنون رؤية تشيد بالفرص الاقتصادية التي يوفرها الاحتلال. قال رجل ملتح: يومية عامل البلاط بميتين وخمسين دولار، تقدر تقارن هالوضع بالأردن أو مصر؟ بعد مغادرته سأل أحدنا السائق: ملتح ويمتدح دولة الاحتلال، لحية زائفة؟ أجاب: ما بظن، يمكن مبسوط. يا سيدي وجهة نظر. 

تحت تأثير الأقصى اشترى رفيقنا الكويتي ٢ كيلو من التين (البلس)، دخلنا حافلة كبيرة متجهة إلى خارج القدس. قام بتوزيع التين على الركاب، وكلما قالت فتاة "لا لا ما بدي" ألح بصوته العميق: والله تاكلين.  أكلوا جميعاً عدى شاب بقي واقفا يحدث صاحبه الجالس عن كراهية اليهود للنبي إبراهيم. 

سألونا عن بلداننا، أجبناهم. كانوا سعداء بالضيوف وبمزاج الضيوف العالي. حتى الصبايا تبادلن معنا الحديث. لقد غير ٢ كيلو من التين مجتمعاً بالكامل.

تعشينا في مطعم اسمه سامر، في رام الله. سألنا النادل إن كنا نفضل أن نجرب "المندي" خاصته، قلنا بصوت واحد "عشاء فلسطيني". 

صباح اليوم تذكرت أن حقيبتي لم تصل. ركبت إلى وسط مدينة رام الله. المدينة مغلقة، الجمعة تفرض إيقاعها وقواعدها. رأيت دكانا فتح للتو. قلت للبائع الشاب: هات لي هذا وهذا وهذا إلخ. بررت هلعي بالقول: ضاعت حقيبتي ولا أملك سوى هذه الأسمال. 

- ضاعت شنطتك؟

- أيوه

- الحمدلله. بدنا نترزق يا زلمة. من وين جاي؟

- تترزق؟

- أيوه. من وين جاي؟

- من ألمانيا.

- عن جد؟

- أيوه. ليش مستغرب؟

- لحظة، خذ كلم أبوي بالألماني لو سمحت

- استنى شوية. أبوك مين وليش؟

- ملكاش دعوة بعدين احكي لك. أنت بس احكي له بالألماني.

تحدثت مع والده بالألمانية. يجيدها. لم يسألني عن اسمي ولا بلادي، فقط قال إنه يحب دورتموند وهايدلبيرغ وأنه لم يغادر الأراضي الفلسطينية، أنهى المكالمة قائلاً إن التغطية سيئة. 

سألت الابن:

- كيف تعلم أبوك الألمانية؟

- أبوي؟ بعرفش والله

- وليش تعلمها؟

- ليش تعلمها؟ ولا حدا بيعرف.

- حابب يسافر ألمانيا؟

- أبوي؟ بيقدرش.

أنا الآن أكثر حرية وأناقة بعد تسوق قصير، تخللته حوارات مجهولة باللغة الألمانية.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص